«هناك مَن سيقرأَ هذه الخواطرُ يوماً؛ لذا.. لن ٵُسجلَ حرفاً واحداً من ذلك السِّرُّ الرهيبُ.»

السبت، 7 يناير 2006

﴿  ٣٢

لماذا ٵڪتبُ هذه الڪلماتِ ؟
ٵتُراني ٵطمعُ في ٵن ٵجدَ حلاً لنفسي، لا ٵظُنُّ.. فلا حلٍّ هناك.
ٵتُراني ضِقتُ ذِرْعاً بصمتي الطويلَ، فأردتُ ٵن ٵُخفِّفُ عن نفسي بالڪلامِ.. رُبما. شابٌ في الرابعةِ و العشرينَ.. في تلك السِّنَّ المُفرحةُ التي يقولَ فيها الشَّابُ لقد ٵحببَّتَ.. سِّنَّ العملِ و الحُبِّ و المخاطرةِ، سِّنَّ النضجِ و الإقبالِ علــے الحياةِ بملءِ القلبِ..
ٵما عندي فهى سِّنَّ الانڪسارِ، سِّنَّ اليأسِ؛ السِّنَّ التي ٵُغلقت فيها ڪلِّ الأبوابِ و ڪُلِّ المنافذِ. و لأَبدأَ من البدايةِ:
البدايةُ المشرقةُ.. و ٵنا في المدرسةِ الأبتدائيةِ، آخُذَ الجوائزَ الأُوْلى في الرِّياضَةِ و ٵنجحُ ڪُلِّ سَنَةٍ بتفوقٍ. ينظرَ إلــےّٰ زُملائي في حسدٍ، و ٵنظرُ ٵنا إلــے نفسي في زهوٍ
و افتخارٍ. و في المدرسةِ الثَّانويةِ، و ٵنا ٵقفزُ من سَنَةٍ إلى سَنَةٍ و ٵتصدَّرُ الفصولِ، ثم إلــے الجامعةِ التي ٵتفوقُ فيها بجدارةٍ لأڪونَ الأُولَ علــے دُفعَتي. إذن.. سوف ٵُخطّطُّ
و ٵعملُ لمستقبلي ڪما ٵشاءُ. و لڪِنَّ القَدرُ ڪانَ قد خطّطَ لي بالفعلِ و ٵختارَ لي مَصْيري، و ڪتبَ قسمتي؛ دونَ ٵن ينتظرُ إمضائي..
مرضٌ بطيءٌ خبيثٌ راحَ يزحفُ علــے ڪياني ڪلهُ، في بُطءٍ و لڪن في إصرارٍ، يتفاقمُ يوماً بعد يوم، و يسيرُ من سيّءٍ إلــے ٵسوأ، برغمِ طِبِّ الأطبِّاءُ من ڪًلَّ لونٍ. ضعفٌ خبيثٌ يَلـمُّ بالعضلاتِ «عضلاتِ الحرڪةِ». يبدأُ خفيفاً بسيطاً، ثم يتفاقمُ. ٵصحو في الصباحِ، فما ٵڪادَ ٵغسلَ وجهي و ٵلبسَ ثيابي حتى ٵشعرُ ٵني قُمتُ بمجهودٍ عنيفٍ، و إنَّ عضلاتي بدٵت تتخاذلُ؛ فأتحاملَ علــے نفسي و ٵنزلَ السُّلِّم، فأشعرُ ٵني ٵجُرَّ نفسي جَرّاً، و ما يڪادَ النهارَ ينتهي حتى ٵرتمي في فراشي و ڪأنني ڪنتُ ٵجري طوالَ اليوم؛ رغمَ ٵني لم ٵقُم بأيّ مجهودٍ يُذڪرُ.
و يوماً بعد يوم تتفاقمُ الحالةُ. فأشعرَ بأني في حاجةٍ إلــے مَن يُعاونني في مأْڪلي
و ملبسي، ثم ٵشعرُ ٵني بحاجةٍ إلــے سيارةٍ في مشوارٍ لا يزيد عن بضعِ عشراتِ الأمتارِ. فعضلاتي لا تقوَى علــے حمَلي، و ساقاي تخذُلاني فتتهاويانِ تَحتي. فأشعرُ ٵني في حاجةٍ لرفيقٍ ٵستندُ عليهِ، و لڪني لا ٵڪادَ ٵتشبَّثُ بهذا الرفيقِ حتى تَڪِلَّ ذراعاي، و ينخلعَ ڪَتفي، ثم ٵتهاوى مثل مجموعةٌ من القشِّ و ڪأني فقدتُ ٵطرافي تماماً.
ثم يتفاقمُ الأمرَ و يستلمني العجزَ من الصباحِ، فلا ٵعودُ قادراً علــے مُبارحةِ الفراش؛
و يزدادَ الأمرُ سُوءاً، فلا ٵعودُ استطيعَ ٵن ٵجذبَ الغِطاءُ علــے جسدي في ليلةٍ باردةٍ، فأظلُّ ٵرتجفُ و ٵهلُ البيتُ ڪلهُ ساڪنينَ و نائمينَ، إلا ٵنا.
لا ٵملِكُ سِوَى إنتظارُ الصباحِ، ٵو إنتظارُ معجزةٍ، ٵن يصحو ٵحدهم و يدخل علــےّٰ بالمصادفةِ فيجذبَ الغطاءُ علــے جسدي ٵو يغلقُ النافذةِ. و ٵنا ٵخجلُ ٵن ٵوقظهم بصياحي، فهُم يقضونَ النهارَ في خدمتي. و ماذا في وسعهم ٵڪثرَ من ذلك ؟ و لقد اڪتشفت حقيقةً هامةً خلالَ ٵلمَيِ: ٵنَّ الإنسانَ ثقيلٌ، و هو يُصبحُ ثقيلاً جداً حينما يمرضُ و يفقدَ القُدرةِ علــے خدمةِ نفسهِ؛ الإنسانَ السليمُ قد يتحمسُ مرَّةٍ للمساعدة، و قد يُشفقُ مراتٍ، و قد يعطفُ يوماً بعد يوم، و شهراً بعد شهر، و لڪن عواطفهُ سوف تتعبُ، و صَبرهِ سوف ينفذُ. و خاصةً حينما يشعرُ ٵنه لا ٵملً و لا فائدةً و لا نهايةً.
و حينئذٍ الويلُ للمريضِ من السليمِ؛ ٵنه سيتحولُ بالنسبةِ له إلــے رفيقٍ ڪئيبٍ
و ضيفٍ ثقيلٍ و حملٍ ڪريهٍ، بل و إلــے ڪابوسٍ..
«ٵنا ٵحڪي عن عذابِ الناسِ حولي». ٵما عذابي ٵنا فيمُڪنُ ٵن تتخيلهُ..
شابٌ في الحلقةِ الثانيةِ من حياتهِ ينحدرُ ببطءٍ و بـإستمرارٍ إلــے هِوةٍ سحيقةٍ من العجزِ،
و يظلُّ يتدهورُ شيئاً فشيئاً حتى يرتمي في فراشةِ، لا يُبرحهُ، و لا يستطيعَ حتى ٵن يُغيرَ الجنبَ الذي ينامَ عليهِ، و الأطبَّاءَ يدخلونَ و يخرجونَ و يضعونَ السماعاتِ، و يطرقونَ عظامي و عضلاتي بمطارقهم، و يُقَلِّبُونَنِي علــے ڪُلِّ جنبٍ. ثم يتجهمونَ و يقولونَ في نبراتٍ مُثقلةٍ: «ٵنه ليس شللاً».. ليس شللاً.. ؟!
الحمدُ للهِ؛ ٵقولُ ٵنا في نفسي؛ و لڪنهم يتجهمونَ. فالشَّللَ يُشفى، و هناك ٵلفَ طريقةٍ و طريقةٍ لعلاجِ الشَّللَ، و ما ٵُعاني منه ليس شللاً.
يقولونَ إنَّ ٵسمهُ: «ٵنه مِيُوبَاثِي».. مِيُوبَاثِي.. ؟!
نعم، مِيُوباثِى.. ٵنه حالةٌ غامضةٌ تضمُّر فيها العضلات، و تفقدُ القدرةِ علــے ٵداءِ وظائفها لسببٍ غير معروفٍ. حالةٌ لا علاجَ فيها و لا ٵملٌ لها، و المستقبلُ فيها ٵن تتدهورَ ٵڪثرٍ و ٵڪثر. و لا تتوقف إلا بالموتِ بعد عُمرٍ طويلٍ ٵو عذابٍ طويلٍ علــے الأصحِ.  إذن لابُد ٵن ٵُعدَ نفسي لمواجهةِ المستحيلِ، و لقبولِ حياةٍ ڪالموتِ.
ٵُحاولُ ٵن ٵخلقَ لنفسي عالماً خاصاً ٵبنيهِ بخيالي من الڪُتُبِ و الرواياتِ التي ٵقرؤها. ڪُلَّ ٵنواعِ الڪُتُبِ؛ المُـتَّرجمةِ و المُؤلَّفةِ، الحديثةِ و القديمةِ، الرواياتِ
و البحوثِ، القصصِ و الدراساتِ. ٵقرأُ و ٵقرأ لأقتلَ الوقتَ قبلَ ٵن يقتلني..
ٵقرأُ لأنسى نفسي في خيالاتِ الأخرينَ. حيلةٌ العاجزِ لمحاربةِ الضَّجَرِ و مغالبة الألام..
ثم لا شيّءٌ ٵڪثر.. الوقتُ يمضي..
شڪراً للمؤلفين.. يشغلونني عن نفسي بخيالاتهم.
إنَّها ابنة عمِّـي، التي ڪُنتُ ٵُبادلها و ٵنا طالبٌ نظراتِ الإعجابِ و الحُبِّ، و ڪانت هى تُبادلني العَشَمَ، ظَّلت تنتظرُ سَنَةً بعد سَنَةً، و لڪنَ العواطفَ تتعبُ، فهـى تذبلُ ڪما تذبلُ ٵوراقَ الشجرِ حينما لا يرويها الأملُ، فهـى تَجفُّ و تسقطُ ڪما تسقطُ ٵوراقَ الخريفِ. و ابنة عمِّـي تتزوج، و هذا ٵمرٌ طبيعيِّ بالنسبةِ لها. و لڪن بالنسبةِ لي؛ قطعةٌ ٵُخرى من حياتي تؤخذُ مِنّي، ڪذراعي و ساقي التي لم ٵَعُدُ ٵملِڪهُما. لستُ ٵنانياً لأتصورَ إنَّها يمڪنُ ٵن تنتظرَ و ڪيف تنتظرَ و تنتظرُ مَنْ ؟
و لستُ غبياً لأُطالبها بالوفاءِ لعهدٍ لا وجودَ له و لرَجُلٍ لا وجودَ له. و لڪن ٵنا بشرٌ.. نعم ٵنا بشرٌ، و اللهُ وحده يَعلَمُ ڪم ٵشعُر و ڪم ٵتألمُ.
سؤالٌ واحدٌ يُحيرني.ٵسأله لنفسي ڪلَّ يومٍ ٵلفَ مرَّةٍ. حتى لِيَڪادَ عقلي ينفجرُ: لماذا ٵختارني اللهُ لهذه المَحرَقَةُ التي قيدني بها ليلاً و نهاراً ؟ لماذا ٵختارني ٵنا بالذاتِ دونَ بقيةَ الناسِ ؟ هل تُراني اقترفتُ ذنباً.. ؟ لا ٵظُنُ، فقد ڪنتُ و مازلتُ مُتديِّناً شديدَ التَّمسُّكِ بالإيمان، ٵتقي اللهُ وٵُصلي و ٵصوم و .. !
لماذا لا يرحمني اللهُ ؟ ٵنا ٵصرخُ و هو يَسمَعُني. و لڪني مازلت ٵتلوَى علــے المَحرَقَة، و حالي يتدهورُ يوماً بعد يومٍ و ساعةً بعد ساعةٍ. و اليقينُ الوحيدُ الذي ٵعيشُ فيهِ، هو يقينَ العذابِ. و العذابِ ٵڪثرٍ و ٵڪثر.
و لطالما سألت نفسي: الأرضُ غارقةٌ في المظالمِ، سابحةٌ في الدمِ مُنذُ ٵن بدأَ تاريخُها،
و ٵنا ٵرَى بشاعةِ الألامِ علــے ٵَسِرَةِ المرضَى و المُحتضرين.
ٵقفُ مشدوهاً ٵمامَ طفلٌ مشلولٌ يبڪي. يا إلهي، ماذا فعل هذا الطفلُ ٵيضاً ليتألمَ ؟ و ٵنا ٵرَى الأوبئةُ تحصدُ ڪُلَّ شيّءٍ، حتى الأجِنَةِ في بطُّونِ الأُمهاتِ.
و ٵنا ٵبحثُ عن الرحمةِ و لا ٵجدُها.
سألتُ نفسي سؤالينِ: «هل اللهُ موجودٌ ؟ ٵم.. ٵنه تركَ العالمُ ؟»